تمويل التنمية البشرية

ضرورة التمويل.
التحليل المبني على منهج التنمية البشرية يهتم بقدرة البشر وعطائهم كمدخلات لعملية التنمية من خلال تطوير طاقاتهم الإبداعية التي يجري أعدادها من خلال مخرجات التنمية البشرية ذاتها تحقيقاً للصفة المتحركة الدائمة التي يتسم بها هذا النموذج التنموي، ولتحقيق هذا الهدف يجب أن يسعى المجتمع إلى تطوير موارده وبخاصة البشرية و تنميتها، وهذا الأمر يتطلب توفير الموارد المالية اللازمة كشرط ضروري لتوجيه النمو الاقتصادي وضمان كفاءة وفعالية استخدام الموارد الاقتصادية فضلاً عن تحقيق نمط أفضل لتوزيع المنافع وتوسيع قاعدة المشاركة في التنمية، وأن تحقيق الإنصاف في توزيع فوائد التنمية والمساهمة في النمو من قبل الجميع من أهم مرتكزات التنمية أيضاً، وقد أثبتت الدراسات أن الإنفاق الاجتماعي وخفض فقر الدخل يعدان القوى الرئيسة المحركة للتنمية البشريةوالاهتمام بتمويل التنمية البشرية يرجع أساساً إلى ما تعانيه غالبية الدول النامية من شح مواردها المالية، فضلاً عما تعانيه من استنزاف لمواردها ورزوحها تحت وطأة الضائقة الاقتصادية بسبب المديونية التي تثقل كاهلها.
وهناك وسيلتان يمكن من خلالهما تمويل التنمية البشرية وهما التمويل المحلي (الداخلي) والتمويل الدولي(الخارجي).

2/التمويل المحلي(الداخلي):
لا بد لأي خطة تنموية من توفير الموارد المالية اللازمة لتحقيق أهدافها، ويتم الاعتماد أولاً وأخيراً على ما يتوفر لدى البلد من موارد مالية محلية، لأن مصادر التمويل الأخرى لا يمكن التعويل عليها في ضمان  اطراد التنمية فهي ليست متوفرة دائماً، وإن توفرت فكثيراً ما ترهق كاهل الاقتصاد الوطني بشكل عام عندما يحين سداد أقساط تلك الديون وخدمتها أيضاً، فضلاً عن أن التنمية البشرية المستدامة لا يمكن تمويلها طويلاً بديون اقتصادية يجب على الآخرين تسديدها، ويقدر ما يتم تخصيصه سنوياً لشواغل التنمية البشرية الأساسية بـ 13% من ميزانية الدول النامية،ومن السهولة بمكان توفير مثل هذا المبلغ إذا توفر الدعم الحكومي لذلك عن طريق توجيه الإنفاق الجاري واستخدامه بطريقة أكثر فاعلية.

3/التمويل الدولي(الخارجي):
تلجأ الدول النامية في العادة إلى التمويل الخارجي عندما يكون هناك عجز في موازناتها العامة، لا تستطيع تغطيته من مواردها المحلية، بحيث ينعكس عجزاً في موازين مدفوعاتها، ويتم عادة تغطية هذا العجز بطريقتين: إما عن طريق الاقتراض أو المساعدات الخارجية أو الاثنين معاً، وتمويل التنمية البشرية الخارجي لا يخرج عن هذا الإطار، في ظل حاجة استراتيجيات التنمية البشرية إلى توفير التمويل اللازم لتغطية متطلباتها المختلفة، ونتيجة لما تعانيه غالبية الدول النامية من وطأة المديونية التي تثقل كاهلها، وضعف المساعدات الدولية في هذا الجانب، تبدو الحاجة للتعرف على آثار هذه المديونية على التنمية البشرية والدور الذي تؤديه المساعدات الخارجية أيضاً.

4/المديونية والتنمية البشرية:
تنشأ الحاجة للتدفقات المالية من الخارج لتطوير القطاعات الإنتاجية أو لبناء الهياكل الأساسية للاقتصاد القومي أو لسد العجز الذي يترتب على زيادة استهلاك المجتمع عما تتيحه قدراته الإنتاجية نتيجة الفجوة الحاصلة بين الادخار والاستثمار المحلي، وقد يؤدي التوسع في عمليات الاقتراض إلى تسريع معدلات النمو الاقتصادي في مرحلة أولى، لكن سرعان ما يؤدي إلى اتجاه معاكس في مرحلة دفع أقساط هذه الديون وخدمتها، ففي حالة عدم قدرتها على السداد فإنها تتعرض إلى الكثير من المشاكل الاقتصادية مثل التضخم واستنزاف الاحتياطات النقدية وضعف قدرتها على التراكم الرأسمالي وغير ذلك، والمديونية الخارجية للدول النامية لا يقتصر أثرها السلبي على  تعاظم حجمها وأعبائها فحسب ولكن تفوق هذا العبء على المساعدات الإنمائية الرسمية مرتين ونصف، فضلاً عن وصول المديونية درجة جعلت الدول النامية تمول الدول الدائنة وليس العكس كما يجب أن يكون عليه الحال، حيث تضاعفت المديونية الخارجية للبلدان النامية عدة مرات واستفحلت منذ الستينيات من القرن الماضي، فكانت تقدر بحوالي 18 مليار عام 1960، ارتفعت إلى 650 مليار عام 1980 ووصلت إلى 2051 مليار عام 1998، وقد كان عام 1983 عام زادت قيمة المدفوعات إلى البلدان النامية (صافي تدفقات الموارد) عن المدفوعات منها (الخدمة السنوية للدين)، ومن ثم كان عام 1984 هو العام الأول فيما يسمى بأزمة المديونية، وهكذا أصبحت الدول النامية منذ عام 1984 مصدرة صافية لرأس المال، فقد بلغ متوسط صافي التحويلات المالية عن القروض طويلة الأجل إلى الدول النامية للفترة من 1972 ــ 1982 حوالي 21 مليار دولار، فيما بلغ متوسط صافي التحويلات للفترة من 1983 ــ 1990 حوالي (-21.5) مليار دولار سنوياً، وقد حصلت الدول المقرضة على 242 مليار دولار في المدة من         1983 ــ 1989 كنقل صافي للأموال من البلدان النامية المدينة عن قروض طويلة الأجل.

5/المساعدات الخارجية والتنمية البشرية.
تمويل التنمية البشرية عن طريق المساعدات الخارجية لا يمكن التعويل عليه أيضاً، وهو في أفضل الأحوال يمكن أن يكون له دور هامشي، ولكنه لا يمكن أن يكون دوراً مبادراً، وتوافر المساعدة الأجنبية في الغالب يؤدي إلى تفضيل الخيارات السهلة واستمرار الاعتماد على البلاد الأجنبية حتماً على الرغم من أن مثل هذه المساعدات كانت في أكثر الأحوال من الضآلة بحيث لا يكون لها غير تأثير طفيف على العكس مما يجب أن تكون عليه بحيث تحصل الدول الأكثر ارتفاعاً لنصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي على نصيب أكبر منها مقابل الدول الأقل، فضلاً عن أن المساعدة الخارجية غالباً ما ترتبط بأهداف يتفق عليها ولا توجه بحسب حاجات التنمية البشرية، بل أن البعض يعترض عليها كونها تحد من حرية البلد عند اختيار الطرائق التي تلائمه في العملية التنموية، ويؤكد تقرير التنمية البشرية لعام 1994 أن التنمية البشرية تستلزم تغييرات جوهرية جديدة في الإطار الحالي للتعاون الإنمائي الدولي أهمها:


1-   ربط المساعدة الخارجية بأهداف تتعلق بـ( الحد من الفقر، وتوفير فرص تشغيل، وتحقيق أهداف التنمية البشرية المستدامة).
2-   توجيه نسبة معينة من المساعدات الخارجية المالية إلى أشد الأمم فقراً.
3-   توسيع مفهوم التعاون الإنمائي ليشمل جميع التدفقات لاسيما التجارة والاستثمار والتكنولوجيا و تدفقات اليد العاملة وليس تدفقات المعونة فقط.
ولا بد من تأكيد ومن خلال ما سبق على ضرورة أن يتم تمويل التنمية البشرية ذاتياً وذلك للآثار السلبية لكل من المديونية والمساعدات الدولية على استمرارية التنمية.

6/منهجية الإنفاق لأجل التنمية البشرية.
نظرا لأهمية تمويل التنمية البشرية،قامت الأمم المتحدة،عبر برنامجها الإنمائي،بوضع منهجية تحليلية لنسب الإنفاق العام باعتبارها آلية تساعد على توجيه موارد القطاع العام واستخدامها في تعزيز التنمية البشرية، وتبرز أهمية هذه المنهجية من حيث:
1-   التعرف على طبيعة و مكونات الإنفاق العام من الميزانية العامة
2-   توجيه الموارد نحو التنمية البشرية
3-   بيان مدى الحاجة إلى موارد إضافية لسد الفجوة في تمويل التنمية البشرية بين تمويل داخلي والتمويل الدولي
وتقسم نسب الانفاق حسب هذه المنهجية إلى:
1-   نسب داخلية                 2- نسب خارجية
أ‌-     النسب الداخلية: وتتضمن تحليل الإنفاق العام في الدول النامية في إطار فلسفة وتوجيه التنمية البشرية وترتبط ارتباطاً وثيقاً بقضية الدور المناسب للقطاع العام ومدى مشاركته بالنشاط الاقتصادي مقارنة بالقطاع الخاص، ومكونات هذا تشمل نسب:نسبة الإنفاق العام:
وتساوي نسبة الإنفاق العام إلى الدخل القومي، والقيمة المرغوبة لهذه النسبة في حدود 25%
     نسبة المخصصات الاجتماعية:
وترتبط هذه النسبة بتركيبة الإنفاق العام وتحديد الأولويات وتساوي نسبة الإنفاق الاجتماعي إلى مجموع الإنفاق العام، والقيمة المرغوبة أكثر من 40%
     نسبة الأولويات الاجتماعية:
وتمثل نسبة ما يخصص للإنفاق الاجتماعي لأولويات التنمية البشرية، حيث تشمل الإنفاق على التعليم الأساسي والرعاية الصحية وشبكات المياه الأساسية، ويعتمد تحديد الأولويات على اعتبارات تختلف باختلاف توجهات المجتمعات من ناحية، والهيكل الأساسي الاقتصادي الراهن من ناحية أخرى، والقيمة المرغوبة لهذه النسبة أكثر من 50%
     نسبة الإنفاق البشري(التنمية البشرية)
وتمثل هذه النسبة ما يخصص من الناتج القومي الإجمالي لأولويات التنمية البشرية وتحسب هذه النسبة بضرب النسب الثلاث السابقة:
i.     فإذا كانت النسبة أكبر من 5% فتعد مرتفعة
ii.   وفي حدود 3 ــ 5% تعد متوسطة
iii.  وأقل من 2% تعد منخفضة
وبطبيعة الحال فإن ما يعد أولويةً في أحد البلدان قد لا يكون كذلك في بلد آخر، كما أن الأولويات تتغير مع الوقت كلما تقدمت التنمية الاجتماعية، فالبلدان التي تكون قد حققت بالفعل مستويات مرتفعة في مجال محو الأمية قد ترى أن التعليم العالي هو الأولوية التالية، وحينما تكون مستويات الصحة الأساسية قد تحققت زاد الاهتمام بأنواع الطب العلاجي المتقدمة، وهكذا.
ب‌-   النسب الخارجية: وهذه النسبة متعلقة بطبيعة واتجاهات تدفقات المساعدة الإنمائية الرسمية، وتقدر بناءاً على ما يتم تقديمه من قبل المؤسسات الدولية.

7/الخلاصة:
تبين لنا من خلال هذه المحاضرة أهمية التمويل لمشاريع التنمية البشرية،فكثير من البلدان لا تمتلك القدرة على تمويل مشاريعها للتنمية البشرية،فتلجأ للتمويل الخارجي إذا ما نقص تمويلها الداخلي،لكن ذلك يكلفها من الناحية الاقتصادية كما يفرض عليها موازنات خاصة في الإنفاق قد تتعارض أحيانا من طبيعة بنائها الهيكلي الاقتصادي،لذلك تحتاج البلدان إلى تبنى إستراتيجية توازن فيها بين مختلف الأمور من اجل تنميتها البشرية.

Post a Comment

Previous Post Next Post