الانتقادات الموجهة للمفهوم.
لا زال مفهوم التنمية البشرية يعاني من القصور في توصيف حال التنمية البشرية الحقيقية، حيث نجد أن التقارير الدولية التي اعتمدت هذا المفهوم لا توضح نقاط البدء الواجب على الدول النامية الانطلاق منها والسياسات التي لا بد منها لمعالجة تخلفها، وعدالة العلاقات الدولية الواجب توفيرها لمساعدة هذه الدول للولوج في طريق التقدم، ولا تبين كيفية المقارنة بين أحوال التنمية البشرية بين الدول المتقدمة والنامية بشكل يتفق عليه.
والبعض يرى أن المفهوم هو اختيار للمؤسسات الدولية في مجال العناية بالبشر، وهو مرتبط بالمناسبات التي تحددها هذه المؤسسات، وهو تصور آت من الشمال لا يلبي خصوصيات المجتمعات النامية، ومن الواجب التصدي إلى تحليل أوضاع البلدان النامية الداخلية وعلاقاتها الخارجية تحليلاً أصيلاً ومبدعاً لفهمها فهماً عملياً يوفر الأساس العقلاني لرسم السياسات التي تلائمها، وعدم إخضاعها لمفاهيم تنموية وأنظمة للقيم صيغت إلى حد كبير في الخارج، وهذه المفاهيم والنظريات قائمة في الأصل على ما هو موجود في الدول المتقدمة وتستمر في الدفاع عن استنساخ أو تقليد الممارسات المرسخة في أطر مؤسسية في البلدان المتقدمة، لا تناسب الدول النامية لاختلاف أنماطها ومحدداتها، فضلاً عن أن استبدال المفاهيم التنموية السابقة بمفهوم أكثر اتساعاً لا يعني أن المفهوم الجديد أصبح قادراً على معالجة مشاكل التنمية في العالم النامي أو أنه يحوي جميع جوانب التنمية والتقدم فيهاوالواقع أن الاهتمام بالإنسان ليس بجديد فهذا المصطلح أستخدم كمصطلح في تقارير البنك الدولي عن التنمية في العالم منذ نهاية السبعينات، حيث جاء في تقرير 1980 " ولا تكتسي التنمية البشرية – التربية و التعليم والتدريب مستوى أفضل من الصحة والتغذية، التقليل من التكاثر- أهمية للتخفيف من الفقر فحسب، بل أيضاً في زيادة مداخيل الفقراء، ونمو إجمالي للناتج القومي ... وإن بعض التدابير أعترف بصلاحيتها الأخلاقية منذ مدة طويلة ... وإن كان هنالك اليوم اعتراف متزايد بأن النمو لا يلغي الحاجة إلى التنمية البشرية وخطوات أخرى ترمي إلى التخفيف من الفقر، فينبغي التشديد على أن العكس صحيح أيضاً، أي أن التدابير المباشرة للتخفيف من الفقر لا تلغي الحاجة إلى النمو".
وقد أشار فريدريك هاربسون أيضاً إلى ذلك بتساؤله " ألا يوجد هناك أهداف أخرى للسياسة الاقتصادية الوطنية عدا عن تعظيم الناتج المحلي الإجمالي أو الناتج القومي الإجمالي؟ على سبيل المثال: تخفيض البطالة، تحسين مستوى التعليم والمعرفة، تنظيم النمو الإسكاني، السعي إلى صحة أفضل، أو التحسينات البيئية كأهداف مساوية أو أكثر أهمية"، وقدم مقياساً للتنمية والتطور من خلال ترتيب الدول حسب تقدمها في ضوء أربعة مؤشرات: نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ومؤشر للتعليم، ومؤشر للتغذية، ومؤشر للصحة.
والحقيقة التي لا بد من تأكيدها هي أن التنمية عموماً والتنمية البشرية بصفة خاصة تعاني الكثير من المشكلات التي تحتاج إلى المزيد من العمل الفكري الجاد ليكون قادراً على توصيفها ووضع الحلول لها، وذلك لفشل الدول النامية من تجاوزها على الرغم من توافر الموارد الطبيعية والبشرية والتعدينية في أغلبها، وفي حين أن الميزة البارزة للأنظمة الاقتصادية المتقدمة هي نمو رأس المال البشري، والتراكم الرأسمالي، وفائض ميزانها التجاري، وقدرتها على فرض أسعارها الاحتكارية في الأسواق العالمية وخاصة للسلع الإستراتيجية، فضلاً عن حصولها على الموارد بأسعار زهيدة إلى غير ذلك، في المقابل فإن الدول النامية تعاني من مشاكل اقتصادية هي العكس تماماً لمشكلات الدول المتقدمة، فمن هنا نجد أن هذه المشكلات أكبر من أن يتم قياسها وتحديدها من خلال متغيرات سطحية بحجة عدم تعقيد الصورة، ومشكلات التنمية بشكل عام أو التنمية البشرية بشكل خاص أصبحت مشاكل مزمنة وآثارها الجانبية انعكست على كل من الإنسان والبيئة وبخاصة في الدول النامية حيث المديونية والفقر والبطالة والاستخدام الجائر للمصادر البيئية بل و تلوثها أيضاً من قبل الدول المتقدمة، فقضايا التنمية البشرية والاهتمام بها ما زالت بحاجة إلى المزيد من الجهد ولا بد من التعامل معها ضمن المنظور الخاص للمجتمعات وفقاً لخصوصيتها، وفي ضوء ما تعانيه من اختلالات.

3/انتقادات مؤشرات التنمية البشرية.
"مفهوم التنمية البشرية أعمق وأغنى من أن نستطيع قياسه بأي مقياس أو حصره بمؤشرات، ولكن مثل هذه المؤشرات مفيدة في تركيز الانتباه، وتبسيط المشكلة، والسبب الأقوى لاستخدامها هو عدم كفاية المؤشرات الأخرى مثل الناتج المحلي الإجمالي".
بهذه الرؤية تبرر الطريقة التي يتم من خلالها بناء دليل التنمية البشرية، ورغم ذلك فقد تعرضت المؤشرات المعتمدة إلى كثير من الانتقادات، ولا يزال هناك تباين واضح في مسألة تحديد أبعاد التنمية البشرية، والعناصر المكونة لها، منها مسألة الاختزال الذي يمثله اختيار هذه المؤشرات لتعبر عن مفردات التنمية البشرية بطريقة كمية و ليست كيفية، والبعض يرى أن الدليل بمفهومه ضعيف، وبشكل عملي لا يعبر عن شيء، فهو يتناول مشاكل خطيرة لا تقارن على مدار الوقت والمكان، ويعاني من أخطاء قياس وانحرافات، والبعض يرى أن العلاقة بين مكونات الدليل ذاتها كانت موضع اعتراض على ادخالها معاً في مؤشر تركيبي واحد، فبعضها قد يلغي أثر الآخر، فضلاً عن أن درجة الترابط بين المؤشرات عالية، مما يعني أنه إذا حذف واحد أو أكثر فإنه لا يترك تأثيراً مهماً على قيمة الدليل، وباستثناء مؤشر الدخل فالمؤشرات الأخرى طويلة الأمد، وتأثيرها في الأجل القصير القليل، والبعض يرى أنها تفتقد إلى عنصر مهم وهو الهدر في تنمية الموارد البشرية والمتمثل خصوصاً في ظاهرة البطالة وفئات من المهاجرين، وأنه تقدم عناصر على المستوى الدولي، على أنها تتصف بنفس الأهمية على مستوى بلدان العالم، والتطور فيها يتبع النسق نفسه.
والبعض قد نظر إلى الناحية القياسية فمنهم من يؤكد على أن المؤشرات المتوسطة محدودة الدلالة، وربما تكون خادعة بسبب الفروق الصارخة في توزيع الدخل والثروات بين الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة والتي تؤدي بدورها إلى فروق مماثلة في نصيب الفرد الفعلي من تلك المؤشرات بسبب انتمائه الاجتماعي والبعض يرى أن التقييم يفترض أن يكون للتغيرات النسبية في المؤشرات وليس للقياسات المطلقة فقط، فضلاً عن أن التجميع في دليل إجمالي لا بد أن يشير إلى وجود (الرصيد) لأي مستوى التنمية البشرية في لحظة معينة، حيث يشتمل الرصيد على المخرجات ويستبعد المدخلات، ويتسائل (سن) عن السبب في الإصرار على استخدام هذه المؤشرات فقط في بناء الدليل على الرغم من عدم نجاعة قياسه، ويرى ضرورة البحث عن بديل، خصوصاً أن مؤشرات التنمية البشرية التي يتضمنها تقرير التنمية البشرية تضم معلومات قيمة، والبعض يرى نماذج الأقطار المقطعية التي تكشف العلاقة السببية بين المتغيرات وتعاني من مشاكل مختلفة، ويقترح طرقاً أخرى للقياس بديلة عن الطريقة التي يبنى بها الدليل الحالي.
ولقد تبنى تقرير 1995 الرد على بعض هذا الجدل، وأكد على أن دليل التنمية البشرية يعد مقياساً جزئياً للتقدم البشري يستلزم استكماله بدراسات أخرى، ومن السابق لأوانه كثيراً استخدام الدليل لتقويم أداء بلد من البلدان ويجب الانتظار لحين إدخال المزيد من التعديلات عليه، وعلى الرغم من ذلك فإن الانتقادات السابقة تبقى جديرة بالاهتمام عند التعامل مع دليل التنمية البشرية كمقياس للتنمية.

4/نقد مؤشر نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.

لتحقيق التقدم في التنمية البشرية لا بد من تحقيق استمرارية في النمو الاقتصادي والذي يؤدي بدوره إلى رفع دخل المواطن وإنتاجيته معاً، إلا أن تحقيق النمو الاقتصادي في مجتمع ما ليس دليلاً على حدوث تنمية بشرية حقيقية فيه، حيث يجب أن يترجم هذا الدخل إلى تحسن في حياة الشعوب، وبدون توزيع ملائم وسياسة عادلة ملائمة قد يفشل النمو الاقتصادي في تحول إلى تحسينات في حياة البشر، فميزة النمو الاقتصادي ليس في زيادة الثروة وإنما في توسيع دائرة خيارات البشر.

وعلى الرغم من أن الدخل المرتفع والتنمية البشرية المرتفعة متناغمان فقد كان هناك عدة اعتراضات على الطريقة التي يعامل بها الدخل في دليل التنمية البشرية، فمن الناقدين من يرى أن الدخل لا ينبغي أن يكون ضمن الدليل، نظراً لأنه مجرد وسيلة وليس غاية، والبعض يرى أنه من السابق لأوانه في عصر الاستثمار في العقل وتصاعد توقعات المستهلكين وتنويع المنتج تقبل نفس الفكرة التي تقول أن العائد الحدي لمتوسط نصيب الفرد من الدخل يتناقص عند المستويات الأعلى، خاصة إذا ما طبق ذلك التصحيح على امتداد دول العالم، وأشار البعض إلى أن الدراسات الكمية الجادة أشارت إلى  أن الدخل المتوسط للفرد لا يوفر مقياساً بديلاً كافياً للتعبير عن مدى إشباع الحاجات الأساسية، والعائق الكبير لاستخدام متوسط دخل الفرد هو اخفاؤه لعدم المساواة، وكونه متوسطاً فهو يخفي أيضاً التناقض بين الغني والفقير ولا يهتم بمشكلات الموارد البشرية، ورغم استبدال الطريقة التي يتم فيها حساب مؤشر الدخل فلا زالت تخفي التباين الكبير بين الدول من الناحية العملية، فنسبة أعلى دولة على هذا المؤشر إلى أقل دولة تبلغ 1:4 في الوقت الذي تبلغ قيمة التباين في الدخل بينهما نسبة 1:75.

5/نقد مؤشر التعليم
شكل الانتشار السريع للتعليم عنصراً أساسياً في زيادة قدرة الدول المتقدمة على استخدام المخزون المتوافر لديها من المعارف النافعة والمتميزة وبالتالي الإسهام في زيادة انتشاره أيضاً ورغم الأهمية الكبيرة للتعليم فإن استخدام معدلات محو الأمية في بناء الدليل ليس مرضياً من الناحية العملية – كما يرى البعض- لأن تعريف الأمية أمر غير متفق عليه، ولا تعبر نسبة القيد الإجمالية تعبيراً صادقاً عن محتوى التعليم أو مستواه، ففي ظل التغيير التكنولوجي المتسارع لا بد أن تعكس البرامج التعليمية هذه التأثيرات، فضلاً عن إتاحة السياسة التعليمية للظروف والشروط المناسبة لتشجيع القائمين على العملية التعليمية لكي يكونوا مبدعين ومخترعين ومتميزين ولديهم القدرة على التعامل والاستفادة من هذا التطور التكنولوجي، ونسبة القيد الإجمالية أيضاً لا تراعي نسبة القيد في كل مستوى من مستويات التعليم الأساسي والثانوي والعالي ليمكن المقارنة بين الدول المختلفة من جهة وبين الدول النامية والمتقدمة من جهة أخرى، فضلاً عن ذلك فإن إعطاء وزن مرجح قدره ثلث لنسبة القيد الإجمالية مقابل وزن مرجح قدره ثلثان لمعرفة القراءة والكتابة بين البالغين أمر غير مبرر أيضاً، إذا ما علمنا أن الوقت الذي يستغرقه الطالب يزيد عن عشر سنوات في المراحل التعليمية المختلفة مما يكلف الدولة مبالغ باهظة للتمويل في حين أن ما تحتاجه برامج محو الأمية من وقت و تمويل يعد قليلاً جداً مقارنة بالمراحل التعليمية الأخرى.

6/نقد مؤشر الصحة
لقد تعرض هذا المؤشر أيضاً لبعض الانتقادات، فعلى الرغم من أن توقع الحياة عند الولادة يعد تلخيصاً لاتجاه الوفيات ويتمتع بقبول عام إلا أن له بعض المثالب فحسابه ليس بالأمر اليسير، والمعلومات الضرورية لحسابه ليست دائماً متوفرة وليست بالدقة المطلوبة في حال توفرها، وهو مؤشر تنبؤي افتراضي، فضلاً عن أنه لا يعكس بعضاً من أمراض التحضر والتوترات التي تفرزها هموم الحياة المعاصرة، وإذا كان مؤشر الدخل مستخدماً فيمكن إضافة معدل وفيات الأطفال الرضع بدلاً منه، لأنه ليس مؤشر كاف للتنمية حيث                  يعكس مستوى الدخل ومعدل وفيات أطفال الرضع.

7/الخلاصة.
لقد تعرض مفهوم التنمية البشرية ومؤشراتها لانتقادات كثيرة، فضلاً عن الانتقادات للطريقة التي يبنى بها الدليل، حيث أجمعت على أنه لا بد من التفكير بطريقة أخرى لبناء الدليل يمكن من خلالها التعرف على حال التنمية البشرية داخل البلد نفسه ومقياسته بدول العالم أيضاً،والى أن تعالج الانتقادات الموجة للدليل ومؤشراته،يبقى هذا الدليل كاشفا عن جانب كبير من مستويات التنمية البشرية في البلدان المختلفة.


ملاحظة*المحاضرة مستقاة بتصرف عن كتاب التنمية البشرية والنمو الاقتصادي للدكتور إبراهيم الدعمة،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع،بيروت،لبنان،2002م.

Post a Comment

Previous Post Next Post