نظريات
التنمية الاقتصادية
برزت
مجموعة من النظريات التي تعرضت للتنمية
الاقتصادية،من أبرزها نظريات مراحل النمو الاقتصادي،حيث يأتي والت روستو في مطلع
الستينات،لينظر إلى أن التحول من التخلف إلى التطور الاقتصادي يمر بسلسلة من
المراحل،تمر بها كافة البلدان التي تريد النهوض الاقتصادي،تبدأ بمرحلة المجتمع
التقليدي ثم مرحلة التهيؤ للإقلاع،فمرحلة الإقلاع،ثم مرحلة النضوج،وأخيرا مرحلة
الاستهلاك الوفير،هذه الخمس مراحل تستند إلى تجربة البلدان المتقدمة،ويمكن أن تكون
دليلا للتعرف على مستويات التنمية بالنسبة لبلدان العالم الثالث.فلكل مرحلة
خصائصها التي تعكس مدى الانجاز التنموي الذي وصلت إليه هذه البلدان.
ويعتبر
ادم سميث من طليعة الاقتصاديين الكلاسيكيين الذين أولوا اهتماما بموضوع التنمية
الاقتصادية،فقد اعتقد بإمكانية تطبيق القانون الطبيعي في الأمور الاقتصادية،ويرى
أن كل فرد يعمل بشكل طبيعي على تعظيم ثروته،فلا حاجة لتدخل الدولة في الصناعة
والتجارة،لكن بداية النمو الاقتصادي مع تقسيم العمل حيث يؤدي إلى أعظم النتائج في
القوى المنتجة للعمل،ويعتبر أن تراكم رأس المال أمر ضروري للتنمية الاقتصادية،وان
تنفيذ الاستثمارات يرجع إلى توقع الرأسماليين بتحقيق أرباح،وهو يفترض أن الاقتصاد ينمو مثل الشجرة وعملية
التنمية تتقدم بشكل ثابت ومستمر.
أما
ستيوارت ميل فهو ينظر إلى التنمية الاقتصادية كوظيفة للأرض والعمل ورأس المال،حيث
يمثل العمل والأرض عنصرين رئيسين للإنتاج في حين يعد رأس المال تراكمات سابقة
لناتج عمل سابق،ويتوقف معدل التراكم الرأسمالي على مدى توظيف قوة العمل بشكل منتج.
وتؤمن
النظرية الكلاسيكية للتنمية الاقتصادية بسياسة الحرية الاقتصادية،وان تكوين رأس
المال هو مفتاح التقدم الاقتصادي،وأهمية وجود قدر كاف من المدخرات،وتراجع الأرباح
في أجواء المنافسة،وان الوصول إلى حالة الاستقرار مسألة حتمية.
ولعل
من ابرز نظريات التنمية الاقتصادية نظرية الدفعة القوية،حيث يذهب روزنشتين رودان
إلى أن التنمية تتوقف على وجود دفعة قوية أو برنامج كبير من الاستثمار بغرض التغلب
على عقبات التنمية ووضع الاقتصاد على مسار النمو الذاتي،وتأتي بعدها نظرية النمو
المتوازن بين مختلف سلع الاستهلاك،وبين صناعات السلع الرأسمالية
والاستهلاكية،والتوازن بين الصناعة والزراعة،وقد طبقت هذه النظرية في
روسيا،وساعدتها على الإسراع بمعدل النمو في فترة قصيرة.
وهنالك
نظرية أخرى باسم نظرية النمو غير المتوازن،وهي النظرية التي ترى أهمية البدء في
التنمية بالمشاريع القائدة،التي يمكن لها أن تقود بقية المشاريع حاليا ومستقبلا في
التخطيط للتنمية،وهذه النظرية ترى أن إقامة مشروعات جديدة يعتمد على ما حققته
مشاريع أخرى من وفورات خارجية وهي بدورها تخلق وفورات خارجية جديدة يمكن أن تستفيد
منها وتقوم عليها مشروعات أخرى تالية.
ليست
هذه كل النظريات المهتمة بموضوع التنمية الاقتصادية،فهناك غيرها،اعرضنا عن ذكرها
في هذه المحاضرة،لكن المتوقع أن تتجدد النظريات بهذا الصدد للأهمية التي تمثلها
قضية التنمية الاقتصادية والتنمية بشكل عام،وهنا لابد من الإشارة إلى أن مفكري
الدول النامية كان لهم دور فكري في طرح التصورات النظرية للتنمية الاقتصادية
لبلدانهم،حين وجدوا أن النظريات المصاغة غربيا والمجربة في ذلك النطاق،ليس فقط لا
تتواءم مع البيئة الخاصة بهم،بل إن بعضها قد صيغ ليساهم في تعظيم رأسمال وثروة
البلدان المتقدمة اقتصاديا على حساب البلدان النامية أو التي في طور النمو.
الإخفاقات
في التنمية الاقتصادية
جعلت
الكثير من البلدان في العالم الثالث التنمية الاقتصادية هدفا تسعى لتحقيقه،وهذا
يرجع إلى أنها تساهم بشكل كبير في تحسين المعيشة وتطوير جودة الحياة وخلق حالة
التساوي بين أفراد المجتمع سيما بين الجنسين،ورفع الكفاءة التعليمية وتحسين
الرعاية الصحية،ناهيك عن دورها في القضاء على عوامل التوتر والصراعات،فهي تساهم في
التماسك الاجتماعي وترسيخ أسلوب الحوار كمنهج حضاري لحل المشاكل الاجتماعية
والسياسية.
لكن
بالرغم من وضوح كل ذلك كنتائج للتنمية الاقتصادية،فان ذلك لا يبدو واضحا في أفعال
كثير من الدول النامية حيث اخفق العديد منها في انجاز درجة مقبولة من التنمية،وهذا
يرجع إلى عدة أسباب،منها:
1- أن
التنمية عملية مركبة ومعقدة،وهي متعددة ومتشعبة الأبعاد،ولابد من اخذ ذلك بعين
الاعتبار والدفع باتجاه تفهم هذا التعقيد في تشعبات العملية التنموية.
2- إنها
عملية طويلة الأجل،ومن ثم فإنها تحتاج إلى صبر ومرابطة لجني ثمارها،وان الاستعجال
في جني الثمار،قد يفسد الثمار والشجر، فتعاقب الدول المتعجلة بالحرمان من ثمرات
التنمية،كما يؤدي التعجل إلى تدمير أصل المشاريع التنموية.
3- إن
دروب التنمية متعددة وطرائقها متنوعة، وقد تهدر جهود كثيرة من فئات المجتمع في
محاولة إثبات صحة وجهة النظر هذه أو تلك، مما يحول دون التوصل إلى إجماع وطني على
مناهج التنمية وبرامجها، تسير وفقها الدولة.
إن
التنافسات والصراعات التي حدثت في بعض البلدان حول نفس مناهج التنمية وبرامجها
وعدم حسم المنهج الذي تتبناه الدولة في موضوع التنمية اضر كثيرا بتطور التنمية في
هذه البلدان،فهذا فريق يتحمس للتصنيع كوسيلة للتنمية مع إهمال الزراعة والمطالبة
بالتركيز على الصناعات الكبيرة،وأخر يفضل التركيز على الصناعات الصغيرة،وآخرون
يطالبون بالتنمية المتوازنة في حين ينادي بعض بالتنمية غير المتوازنة،وهكذا يحتدم
الخلاف بين هذه الفئات ويشتد الصراع،ويهمل الهدف الرئيسي المتمثل في التنمية.
4- ويمكن
أن يضاف إلى ذلك دور الفساد المالي والإداري في الإضرار بمشاريع التنمية،فقد تبين
في عدد غير قليل من البلدان أن الجهات المتنفذة تستخدم الإمكانيات والأموال
المخصصة لمشاريع التنمية،لمصالح فئوية أو جهوية أو شخصية،وتوجه هذه الاماكنيات إلى
غير صالح المشاريع التي رصدت من اجلها أساسا،مما يعطل هذه المشاريع من رأس،وينعكس
ذلك على تكاملها مع بقية المشاريع،فتسقط جميعها،فتفشل التنمية.
ولعل
هذه النقاط تلفت النظر إلى أن التنمية إضافة إلى حاجتها إلى التخطيط الذي ينظر إلى
مستقبل البلدان التنموي من الناحية الاقتصادية،بشكل متكامل،تحتاج كذلك إلى نزاهة
في تنفيذ هذه المخططات،لتحقق التنمية أهدافها وتتحول إلى واقع قابل للتطور.
5/نموذج
مميز في التنمية الاقتصادية
تعتبر
تجربة التنمية الاقتصادية لبلدان شرق أسيا،تجارب جديرة بالتعلم منها سيما لمنطقة
مثل المنطقة العربية التي لم تنهض بعد،رغم توفرها على حظوظ اكبر من تلك الدول من
حيث تنوع الموارد،وإمكانيات التكامل بين الأقطار المختلفة من الدول العربية.
وتأتي
التجربة اليابانية كأول التجارب التي اقتفت نهجها بعض الدول الشرق آسيوية بعد
ذلك،ويسجل البعض أن المحاولة الأولى لطرح رؤية متميزة لنموذج التنمية الأسيوية قد
جاء في مؤلف مهم عن الاقتصاد الياباني أصدره"شيغيرا اشيكاوا"في طوكيو
عام 1967،استند فيه بصفة أساسية إلى التجربة اليابانية في التنمية،تلك التجربة
التي سار على هديها العديد من البلدان الآسيوية فيما بعد.
لقد
حققت النمور الأربعة (كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وهونج كونج) انجازات مهمة
في الستينات والسبعينات،لكن التجربة لا تقتصر على هذه البلدان بل هي اعم
واشمل،وتضم بلدانا أخرى،برزت بشكل واضح على صعيد التنمية الاقتصادية،مثل
الصين،وماليزيا ،والهند.
لقد
اتسم نموذج هذه التجارب ،بعدد من السمات،منها أنها كانت تقوم على إستراتيجية
استثمارية تحدث تغيرات هيكلية في بنية الاقتصاد والإنتاج خلال مدى زمني قصير،تدعم
بنظام تجاري يقوم على التحيز التصديري،وليس على الإحلال محل الواردات،والدولة في
هذه التجارب تحفز لتحديد توجهات السياسة الاقتصادية بعيدة المدى،دون إهمال دور
آليات السوق،كما تحترم هذه التجارب البعد الثقافي والمؤسسي لمجتمعاتها،وتعطي
اهتماما كبيرا للأمن القومي فيها،بحيث تكون القوة العسكرية عنصرا مهما في حسابات
القوة بالمعنى الشامل للكلمة.
ولقد
حدثت اكبر درجة من التفاعل والتكامل بين القطاعين العام والخاص في مجال أنشطة
البحوث والتطوير،في إطار إستراتيجية بعيدة المدى،وقد أدى ذلك بدوره إلى ارتفاع العائد
التنموي طويل الأجل من جراء هذه التفاعلات خارج نطاق السوق.
كما
أن السياسات الاستثمارية بين اليابان وكوريا وتايوان، نجم عنها توسيع وتعميق شبكة
التكامل الصناعي الإقليمي في البلدان
الأسيوية،من خلال علاقة التكامل الرأسي،إذ يلاحظ أن كل موجة من الموجات الاستثمارية
اليابانية والكورية والتايوانية،كانت تعمق من تلك التشابكات فيما بين فروع النشاط
الصناعي،وبصفة خاصة الموجات الكبرى للاستثمارات اليابانية خلال الفترة من منتصف
الثمانينات إلى منتصف التسعينات من القرن الماضي،وقد أدى هذا بدوره إلى تعميق ونمو
تدفقات التجارة البينية على الصعيد الإقليمي الذي يجمع بين دول المنطقة.
وهكذا
فان اقتصادات بلدان منطقة جنوب شرق أسيا،كانت تتقدم سويا من خلال التوسع في مجال
التبادل التجاري،عبر عمليات الإحلال المستمر بين عناصر سلتي الواردات والصادرات.
وقد
أطلق على هذه الطريقة بنموذج الإوز الطائر،حيث وزع على ثلاث مراحل،في المرحلة
الأولى يبدأ البلد الآخذ في النمو باستيراد السلعة من البلد المتقدم القريب منه في
أسيا،وقد كانت اليابان في البداية هي البلد الوحيد المتقدم،ثم يحاول البلد الآخذ
في النمو في المرحلة الثانية،بإنتاج السلعة على أرضه،بتمويل مشترك،أو من دون تمويل
مشترك من البلد المتقدم،ثم يعيد تصديرها إلى البلد الأكثر تقدما،وفي المرحلة
الثالثة،يبدأ البلد الآخذ في النمو في إعادة توطين الأنشطة الصناعية في البلدان
الآسيوية المجاورة الأقل تقدما.
ووفقا
لهذه الدورة يتم ارتقاء السلم التصنيعي تدريجيا من خلال إعادة التقسيم الإقليمي
للعمل فيما بين البلدان التي تنتمي إلى أسراب الإوز الطائر، الأولى والثانية
والثالثة، وهكذا.
6/
الخلاصة
ويمكن
لنا أن نخلص في هذه المحاضرة إلى أن التنمية الاقتصادية تلعب دورا كبيرا في تطوير
المجتمعات الإنسانية،وتمثل المقدمة الضرورية لنهوض أي مجتمع،ولابد من الأخذ
بالاعتبار أن لا تكون هذه التنمية مجرد نمو في الدخل القومي،بل تنمية تنعكس على
هيكلية البلدان،فتوثر في أبعادها الاجتماعية والثقافية والحياتية الأخرى،وكعرب
يمكن لنا اليوم الاستفادة من عدد من العناصر الايجابية التي تتميز بها منطقتنا في
النهوض الاقتصادي،اخذين التجارب التنموية الاقتصادية كالنموذج الشرق أسيوي بعين
الاعتبار،ومتجاوزين العوامل التي تدمر المشاريع التنموية،كالصراعات والتنافس حول
أصل الرؤية لمسألة التنمية،والفساد المالي والإداري،وغيرها.
Post a Comment