نظريات التخلف

إذا كان النظر للتخلف بما هو أوسع من التخلف الاقتصادي،فإننا نجد النظريات بهذا الصدد تنقسم إلى قسمين،الأول منها ينظر إلى التخلف باعتباره  وليدا لنفس المجتمع،بما يحتويه من قيم وتقاليد وثقافات ودين وعلاقات اجتماعية،وان سفينة النجاة في تغيير هذه الأطر والثقافات عن طريق التحديث الذي قد يعني الانفتاح والأخذ من الثقافات والمعارف لدى الأمم التي تعتبر متقدمة حضاريا قياسا للمتخلفة،وفي حالتنا،الأخذ من الغرب باعتباره يمثل الحضارة السائدة في وقتنا الراهن.
وقد انعكس هذا التوجه في بيئتنا العربية والإسلامية،بمحاربة أصحاب هذه النظرية للدين باعتباره أصل الداء والبلاء وانه العقبة الصلبة أمام دخول العالم العربي والإسلامي عالم التقدم والتطور،واعتبروا انه بمقدار إقصائنا للمنظومة الدينية من حياتنا بذات المقدار يكون تقدمنا وتطورنا،ويضربون مثلا بالعالم الأوروبي الذي لم يستطع التقدم والخروج من دائرة التخلف والانحطاط إلا بإقصاء الدين ومؤسسته عن مسرح الحياة،وبالتأكيد إن هذا التفسير لنظرية التخلف لم يكن موفقا في تشخيص الداء ولا الدواء.

أما القسم الثاني فانه يرى على العكس من ذلك أن التخلف وليد الخارج بما يشكله من استعمار ومؤامرات وضغوطات دولية ومصالح اقتصادية وسياسية،فالسبب الرئيس للتخلف يتمثل في وجود عامل خارجي يضغط باتجاه تجفيف منابع القوة في المجتمعات المتخلفة،وقد نشأت مدرسة ونظرية اصطلح على تسميتها بالتبعية وهي نظرية نشأت في بدايتها في أمريكا اللاتينية،وفكرتها الأساسية أن التخلف لا يمثل الحالة الأصلية في العالم الثالث،بل نشأ التخلف وتطور من خلال أساليب الخضوع للنفوذ الرأسمالي،وبالتالي فان محاكاة الغرب،وتطبيق نماذجه السياسية والاقتصادية لا يؤدي إلا لمزيد من التخلف وتعميقه،ووصوله إلى كل مجال.

ومن خلال هاتين النظريتين تولدت نظرية تجمع بينهما وترى أن التخلف وليد العاملين معا، فهو عبارة عن استعداد داخلي سمي بالقابلية للاستعمار، كما لدى مالك بن نبي،وتسلل خارجي يستثمر القابلية للاستعمار بأقصى درجاته لتحقيق مصالح ترتبط به.

وأي كانت أسباب التخلف،داخلية أم خارجية أم مشتركة فإنها بلا ريب تؤثر على التنمية بشكل عام،وتساهم في تعويق وتعطيل برامجها ومشاريعها،فتصبح معالجة التخلف بمعناه العام،مسألة ملحة لإنجاح برامج التنمية،ولعل التطور التكنولوجي المعاصر وتضخم دور الإعلام في حياة الناس وتجاوز الحدود الجغرافية فضائيا،جعل من حالة التخلف قضية يمكن معالجتها بأيسر مما كان في القرون الماضية،نظرا لإمكانية التغيير البنيوي للمكونات المعرفية والنفسية عند الشعوب التي تعتبر متخلفة،بما يساهم بدرجة كبيرة في التفاعل مع مشاريع التنمية وإنجاح مخططاتها،ولعل هذا ما يتطلب من القائمين ببرامج التنمية اخذ الجانب الإعلامي بعين الاعتبار،مع عدم إهمال دور التأثيرات الخارجية من تعويق لمشاريع التنمية،سواء كان بممارسة ضغوطات مالية أو بتدخل مباشر في شئون البلدان الطامحة للتنمية،والواقع زاخر بعدد من الأمثلة والنماذج،التي تعكس أسباب التخلف الاقتصادي خاصة،فقد تكون داخلية وقد تكون خارجية وقد تكون مشتركة،وتتفاوت النسبة لتأثير كل عامل منها في التخلف.

4/نظريات التخلف الاقتصادي

 تعددت نظريات التخلف الاقتصادي منذ منتصف القرن الماضي،فمن هذه النظريات النظرية الجغرافية،التي تنظر إلى أن ظاهرة التخلف الاقتصادي يرجع إلى طبيعة المناخ الاستوائي الذي تعيش فيه غالبية الدول المتخلفة والفقيرة،فقد كان سائد قبل الحرب العالمية الثانية،أن المناطق الاستوائية تتميز بارتفاع شديد في الحرارة وغزارة في الأمطار،ما يؤدي إلى انتشار الأوبئة والأمراض وخاصة الملا ريا،وربما وجد هذا الرأي سندا له حيث أن النشاط الأساسي الموجود في هذه المناطق هو الزراعة المنخفضة الإنتاجية التي تعتمد أساليب تكنولوجية متخلفة،لكن التطور المعرفي كشف  زيف هذه النظرية،وهي لا تخلو عن ميول عنصرية.
وهنالك نظرية الثنائية الاجتماعية التي تؤدي للتخلف الاقتصادي،حيث يسود المجتمعات المتخلفة،نظامان احدهما مستورد من الخارج والأخر أصيل في المجتمع،حيث أن الأول يتسم بالرقي والتقدم والثاني بالتخلف وعدم التنظيم والقابلية للتطوير،ويقترح أصحاب هذه النظرية ترك المجتمعات المتخلفة لأنها غير قابلة للتنمية.
وتماثل هذه النظرية نظرية الثنائية التكنولوجية، حيث أن في هذه المجتمعات قسم يعتمد الوسائل التكنولوجية القديمة والبالية ويصر على استخدامها، وقسم أخر وهو الراغب في التطوير يستخدم التكنولوجيا الحديثة،مما أدى إلى ارتفاع عدد السكان مع عجز الدولة المتخلفة عن الوفاء لمتطلبات هذا العدد المتزايد،فيؤدي الأمر إلى مزيد من التخلف الاقتصادي.
وتأتي نظرية عرض العمل الغير محدد لترى أن التخلف الاقتصادي يرجع إلى وجود العمالة الفائضة لدى القطاع العام في هذه الدول مما يؤدي إلى عرض أعمال غير محددة،وان التنمية تكمن في التخلص من هذه الأعداد الفائضة،لكن الدول المتخلفة  غير قادرة على ذلك لأسباب أخرى بعيدة عن الجانب الاقتصادي،مما يكرس التخلف فيها على حد نظر أصحاب هذه النظرية.
وهناك نظرية ركز عليها الكثير من الاقتصاديين منذ فترة ليست بالقصير ،حيث يرجعون التخلف إلى أسباب ثقافية ونفسية واجتماعية،وعدم إمكان حدوث التنمية  الاقتصادية في دولة ما إلا بعد إدخال تعديلات على الإطار الثقافي القديم الذي يميزها،ويتمثل التغيير في تولد حاجات جديدة ودوافع جديدة ووسائل إنتاج حديثة ومؤسسات مختلفة عن تلك السائدة في الدولة المتخلفة.
وفسر بعض الاقتصاديين ظاهرة التخلف الاقتصادي بالآثار السلبية التي تنتجها التجارة الدولية على الاقتصاد الوطني من حيث تعميق الثنائية في المجتمع ومن ثم إبطاء معدل التغيير فيه،أي أن الآثار السلبية للتجارة الدولية تزيد على الآثار الايجابية التي قد تنتجها،من حيث توسيع نطاق السوق وإتاحة المجال للإفادة من المزايا النسبية للدولة.ومن ناحية أخرى فان وجود الاتجاه طويل الأجل نحو تدهور شروط التبادل الدولي في غير صالح الدول التي تصدر المواد الخام والسلع الغذائية،ما يؤدي إلى إلحاق الضرر  بالدول المتخلفة.


5/الخلاصة.

نخلص من كل ما ذكر أعلاه أن هنالك علاقة كبيرة بين التخلف والتنمية،وان التنمية والتخلف تقفان على طرف النقيض وهو ما يعني الحاجة الماسة إلى التغلب على أسباب التخلف ،أي كانت النظرية التي يتبناه المجتمع،قبل الشروع في برامج التنمية،لكن المبالغة في رمي بعض العوامل بأنها أساس التخلف تحتاج إلى مراجعة شديدة وعدم الركون إلى التحيز الحضاري في تشخيص مشاكل التنمية،وبعد معالجة مشاكل التخلف يمكن الانطلاق في برامج التنمية،سواء التنمية الاقتصادية أو التنمية الشاملة والمستدامة أو التنمية البشرية.
أما وضع هذه البرامج في غفلة تامة عن حالة التخلف التي تسود المجتمع،فإنها قد تؤدي إلى انتكاسة كبيرة في مشاريع التنمية وبرامجها،مما يؤدي إلى ضياع جهود كبيرة وموارد تحتاجها البلدان بشكل ملح.


Post a Comment

Previous Post Next Post